الضمير
ذلك الصوت الهادئ، الذي يتكلم إلى الناس، ويوجه قراراتهم وسلوكهم ويدفعهم لتأدية الواجب. ذلك الرقيب الداخلي الذي يوبخهم عندما يحاولون اقتراف معصية تخالفه. هو ما يسمونه الضمير. إنه صوت سماوي خالد (كما سماه روسـو) تارة وهو صوت غير سماوي تارة أخرى،قابل للتغيير والانحراف، يسهل إسكاته وتجاهله بالمثابرة على عصيانه. يتأثر بالتدريب والتربية. يقول بولس الرسول «لذلك أنا أيضاً أدرب نفسي ليكونليدائماً ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس»(سفر أعمال الرسل 24: 16). والضمير لا يتسم بالكمال، وليس صوت الله دائماً، لأنه يقول «لنتقدم بقلب صادقمرشوشة قلوبنا من ضمير شرير...» (رسالة العبرانيين 10: 22). وأيضاً يقول «دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهرضمائركم من أعمال ميتة ... »(رسالة العبرانيين 9: 14).
2-1- تعريف الضمير:
الضميرفي اللغة العربية، جمعه ضمائر، هو «ما تضمره في نفسك ويصعب الوقوف عليه.إنه اسـتعداد نفسـي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار، والتفرقة بينهما، واستحسان الحسن واستقباح القبيح منها»(مصطفى، 1960، 564).
ويعرّف معجم الأخلاق الضمير بأنه: «وعي الشخصية الذاتي لواجبها تجاه المجتمع، وتجاه الذات. وقد لا يتجلى الضمير في صورة إدراك عقلي لقيمة الأفعال الأخلاقية فقط، بل وفي صورة معاناة عاطفية، كما في الشعور بتأنيب الضمير، أو في راحة الضمير الإيجابية»(كون، 1983، 248).
كما يعرّف معجم لالاند الضمير كما يلي: «الضمير الأخلاقي، هو خاصية العقل في إصدار أحكام معيارية تلقائية ومباشرة على القيمة الأخلاقية لبعض الأفعال الفردية المعينة. وإذا تعلق بالأفعال المقبلة، فإنه يتخذ شكل صوت يأمر أو ينهي وإذا تعلق بالأفعال الماضية، فإنه يترجم عن نفسه بمشاعر السرور أو الألم» ( بدوي، 1976، 56 ).
ويعرّف هالسبي الضمير قائلاً: إنه «تلك المعرفة أو الوعي الذي يعرف الإنسان بواسطته أنه يمتثل للشريعة الأخلاقية أو لإرادة الله»(هالسبي، 1985، 12).
وإذا عدنا إلى الكتاب المقدس، فإن تعبير الضمير لا يرد بشكل صريح في العهد القديم، إلا أن فكرته موجودة ومُعبر عنها بكلمة، القلب. كما في قوله «وضرب داود قلبه بعدما عدّ الشعب. فقال داود للرب لقد أخطأت جداً في مافعلت والآن يا رب أزل إثم عبدك لأني انحمقت جداً»(سفر صموئيل الثاني 24: 10). أي أن داود تأمل وانتبه وعرف خطيئته ثم اعترف بها للرب. وأيضاً يقول أيوب: «تمسكت ببري ولا أرخيه. قلبي لا يعيّر يوماً من أيامي»(سفر أيوب27: 6). أي أن أيوب يرى أن قلبه (ضميره) لا يوبخه على شيء. وقد استُخدم تعبير القلب للدلالة على الضمير في عدة مواضع من العهد الجديد كما في قوله: «إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء»(يوحنا الأولى 3: 20). ولامتنا قلوبنا تعني لامتنا ضمائرنا.
أما لفظة، الضمير، فيتحدث عنها العهد الجديد في نحو ثلاثين موضعاً. فيرى أن الضمير، صوت، يشهد «ضميري شاهد لي..»(رومية 9: 1). يوبخ ويبكت عندما يُخطئ الإنسان «ضمائرهم تبكتهم..»(إنجيل يوحنا 8: 9). ويشتكي عندما صاحب الصوت لا يُطاع «شاهداًأيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة»(رومية 2: 15).
كما يرى الإنجيل أن الضمير هو عاطفة ومشاعر وأحاسيس، يُجرح ويُؤذى كما في الآية التالية: «تخطئون إلى الأخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف»(كورنثوس الأولى 8: 12). ويحس«كل ما يُباع في الملحمة كلوه غير فاحصين عن شيء من أجل الضمير»(كورنثوس الأولى10: 25) أي لا تخافوا أن تخطئوا من نحو ضمير المؤمن الضعيف. ويكون قليل الحس متصلب أحياناً أخرى، فيقول عن الذين قد فقدوا الحس وأسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة «في ريـاء أقوال كاذبـةموسـومة ضمائرهم»(رسالة تيموثاوس الأولى 4: 2). وموسومة ضمائرهم تعني أنه مكتوب على ضمائرهم صفة الأقوال الكاذبة، وكأنها مكوية بالحديد المحمى غليظة قليلة الحس، متصلبة. كما أن الضمير يفرح «فخرنا شهادة ضميرنا»(رسالة كورنثوس الثانية 1: 12).
ويرى الإنجيل أن الضمير يعي ويعرف، فيأخذ دوراً في التفكير والمعرفة فيقول «وأرجو أنناقد صرنا ظاهرين في ضمائركم»(رسالة كورنثوس الثانية 5: 11). ظاهرين في ضمائركم، تعني أن ضمائركم تعرفنا على حقيقتنا. كما أن الضمير يصدر أحكاماً وقرارات. «لأنه لماذا يُحكم في حريتي من ضمير آخر»(رسالة كورنثوس الأولى 10: 29). مما سبق يمكن أن نستنتج التعريف التالي للضمير من وجهة نظر مسيحية.
الضمير: أحد مكونات الشخصية الإنسانية الحاضن للقيم والمثل الدينية والاجتماعية التي نتربى عليها في البيت والمدرسة والمجتمع. فهو وعي يُصدر الأحكام وفق ما يعرفه عن إرادة الله، وصوت يخبرنا بوجوب تنفيذ هذه الإرادة بمقارنة أفكارنا وأعمالنا ومشاعرنا معها، وعاطفـة تحب العدو«أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم..»(إنجيل متى 5: 44) وتحب الصديق، وتكره الشر والخطية وما لا ينسجم مع فكر الله.
2-2- تكوين الضمير:
إن أوامر المجتمع ونواهيه، والتفاعل بين عقل الإنسـان وروحه وعواطفـه واختباراته الحياتية المُعاشة، في المواجهة أو الحوار مع الآخر، والضغوط التي تُمارس على الإنسان، إن كانت هذه الضغوط أعرافاً أو تقاليداً، لا تكّون الضمير، بل تكيّفه وتشكّله وتنشطه. إنه موجود مع الإنسان منذ أن يوجد. ففي داخل الإنسان معرفة غريزية موروثة عما يجب أن يفعله، فعندما يقول «وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسانالعمل الذي يعمله الله ...» (سفر الجامعة 3: 11). أي أن الله خلقهم على صورته الأدبية وجعل فيهم نفساً خالدة تشتاق إلى معرفة سر الحياة ومعناها.
ويقول أيضاً الرسول بولس «لأنه الأمم الذين ليس عندهمالناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة»(رسالة رومية 2: 14 ، 15). يعني أن الذين ليس عندهم ناموس مكتوب يسترشدوا به لمعرفة الخطأ والصواب عندهم ناموس غير مكتوب في داخلهم، غرزه الله فيهم، للتمييز بين الصواب والخطأ. هذا الناموس غير المكتوب الذي أعطاه الله لكل إنسان، هو الضمير.
ويمكن أن نشير هنا إلى أن ضمير الإنسان الساقط الوثني، لا يستطيع وحده أن يقنعه بذنبه، رغم أنه يشعر بضميره، أنه يرتكب خطيئة ضد الله والإنسان وذلك بسبب نقص معرفته الحقيقية لإرادة الله، فكان يمارس الفحشاء أثناء ممارسته لطقوسه الدينية (راجع رسالة رومية 1: 18 – 26)، معتقداً أنه يرضي الإله إذ ليس لضميره شريعة يلتصق بها سوى التي يشعر بها في قلبه.
إن الضمير المعطى من الله يحتاج إلى تدريب وتربية ليتم تنشيطه وتكييفه. لذلك يقول الرسول «لذلك أنا أيضاً أدرب نفسي ليكونليدائماً ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس»(سفر أعمال الرسل 24: 16). أي أنه يدرب نفسه ليزداد تكيفاً مع ظروف الحياة، بما يفرضه المجتمع من أوامر ونواهي من جهة ويزداد تكيفاً في علاقته مع الله لينمو إلى قياس قامة ملء المسيح من جهة أخرى، حتى لا يكون فيما بعد عبداً لشهواته الأنانية، بل يعمل لصالح الآخرين ومن أجل ذاته أيضاً. كما يقول في إنجيل متى «تحب قريبك كنفسك»(متى 22: 39).
هذا الضمير الأخلاقي يتشكل وينشط نتيجة للشعور بالالتزام نحو عادات وقوانين المجتمع، والالتزام باتباع الخير الأسمى، الذي هو الله، كما أطلق عليه هذا اللقب القديس أوغسطينوس.
خصائص الضمير: يتميز الضمير بعدة صفات أهمها:
-
القدرة على الحكم واتخاذ القرار:
يقول في الرسالة لأهل كورنثوس «لأنه لماذا يُحكم في حريتي من ضمير آخر» (كورنثوس الأولى 10: 29) أي لماذا أعرّض نفسي للوم أخي المؤمن كأني مذنب بتصرفي بمقتضى حريتي دون التفات إلى ما يظنه من عملي، إذ من الحقائق الواضحة في الحياة أنه بين الآخرين من يراقبنا، وهناك من يتمثلون بنا في سلوكهم.
وعندما يقول «ليكون لي ضميربلا عثرة من نحو الله والناس»(سفر أعمال الرسل 24:16) فهو يبين أن الضمير الحي قادر على الحكم واتخاذ القرار حيث إن القدرة على الحكم تتأتى بناء على معايير للسلوك. فالضمير الأخلاقي ينشئ قراراته بناء على تمسكه بقيم أخلاقية مثالية. والضمير لا يكون أخلاقياً إلا إذا كان نزيهاً، أي يتوجه نحو القيم المطلقة للأخلاق.
وهكذا فإن على الضمير الأدبي الحي مسؤولية الشر أو الخير الذي نفعله. به نحكم على ذواتنا وعلى الآخرين.
2- القدرة على التمييز بين الخير والشر:
إن الضمير ليس معصوماً من الخطأ. لذلك يقع الإنسان بعمل ما هو شر. فالضمير الحي لديـه القـدرة على التمييز بين الخير والشر والاختيـار الحـر بينهما. فيقول في الرسالة إلى العبرانيين «وأماالطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر»(عبرانيين 5: 14). فالذين بلغوا درجة عالية من النمو الروحي وأدركوا التعاليم السامية واستفادوا منها، صارت حياتهم المسيحية مستقيمة ومدربة على التمييز بين الخير والشر، فالنفس التي تعودت على طاعة الضمير الحي وسماع تنبيهاته وطاعة أحكامه المستمدة مما أعلنه الله في الكتاب المقدس كفّت عن الذهاب وراء الشر واتجهت نحو الخير الأسمى.
ومن جهة أخرى، فإن الضمير يقوم بالتأمـل والابتـكار والاحتكاك بالضمائر الأخرى ليستنير أكثر ويتسع أفقه، ليحصل على ما يلزمه من إرادة خيّرة.
3-الضمير حالة تتصف بالقوة والضعف:
فالضميرعندما يكون قوياً، يكون شديد الإحساس بالشر، يلوم كيما يقودنا إلى اتباع الأفضل واختيار الصالح. وعندما يكون فاتراً ضعيفاً، تكون تأنيباته عندما نقع في الخطأ والخطيئة خفيفة باهتة، وكأني به قد أصابه التلف فهو قليل الإحساس بالشر. ويسعى الإنسان في هذه الحالة للتخلص من تأنيب الضمير وتثقله بالخطية. ويسميه هنا كاتب الرسالة للعبرانيين بالضمير الشرير «مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير»(عبرانيين 10: 22). لأن الخطية أضعفته وشوهته.
2-3-عمل الضمير :
يعمل الضمير شاهداً، مشتكياً ومحتجاً، موجهاً ومجادلاً. «شاهداً أيضاًضميرهم وأفكارهم في ما بينها مشتكية أو محتجة»(رسالة رومية 2: 15)
كما يعمل جالباً للرضى والسرور وللشعور بالألم أيضاً للنفس البشرية«إن لم تلمنا قلوبنا...»(رسالةيوحنا الأولى 3: 21). إن لم تلمنا تعني إذا تحققنا من إخلاصنا للهومحبتنا له ولأخوتنا، حصلنا على السلام لضمائرنا.
يعمل الضمير على المقارنة بين كلماتنا وأفكارنا وبين إرادة الله (الناموسالأخلاقي الجيد) ثم يصدر أحكامه إن كنا نطيع إرادة الله أم لا. أما الوثني فليس لضميره شريعة يلتصق بها، سوى الشريعة التي يشعر بها في قلبه «لأنه الأمم الذين ليس عندهم الناموس، متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يُظهرونعمل الناموس في قلوبهم..» (رسالة رومية 2: 14، 15). لذلك يعمل ضمير الإنسان الطبيعي بطريقة ناقصة بسبب نقص معرفته بإرادة الله وبالتالي يقوده ضميره إلى القيام بممارسات طقسية في العبادة خالية من المعنى. بينما لدى المؤمن إرادة الله المكتوبة.
خلاصة الأمر، الضمير، ضابط لسلوك الإنسان، في غياب الرقابة الخارجية، إنه محكمة ذاتية. ومع الشعور بالواجب والكرامة والشرف، يعطي الفرصة للمرء لكي يدرك مسؤولياته الأخلاقية الجيدة أمام الله والذات والناس، إنه ناقل للأخلاق الاجتماعية والدينية. إنه مرجع أخلاقي رفيع المستوى، لكنه غير نقي على الدوام، إذ قد يُخدع أحياناً. لذلك لا يجوز اعتبار الضمير وحده مقياساَ للأعمال والأفكار ذات الصفة الأخلاقية الجيدة.
2-3-1- تأنيب الضمير:
يعني وخزات الضمير، أو إحساس بسيط بالخزي (إحساس بالخجل أو الحياء) وشـعوربالذنب أمام الله، أو أمام الناس، أو أمام الاثنين معـاً. إنه لوم للذات بسبب خروجهاعن قاعدة أخلاقية جيدة أو عصيانها لأمر إلهي.
لقد سجل لنا الكتاب المقدس، بدءاً من صفحاته الأولى، حالة تأنيب للضمير ذلك عندما ارتكب آدم وحواء خطيئتهما، بعصيانهما أمر الرب، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب، حتى قبل أن يسمعا أسئلته وتأنيباته «وسمعاصوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة»(سفر التكوين 3: 8).
كذلك صاح قايين عندما تلطخت يداه بدم أخيه: خطيئتي أثقلت كاهلي فلا أستطيع حملها «فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يُحتمل»(سفر التكوين 4: 13). ثم هام على وجهه تائهاً وهارباً في الأرض، يسعى للاختباء من وجه الرب.
تأنيب الضمير هذا، قد يقود إلى الندم الذي يظهر بقبول العقاب الناتج عن العصيان وارتكاب الخطأ، والندم لا يعني عدم العودة إلى التمرد مرة أخرى بل هناك فرصة ثانية وثالثة لارتكاب الذنوب، لذلك يقول الرب في كلمته على لسان إرميا النبي «مللت من الندامة»(سفر إرميا15: 6). إلا أن الندامة قد تطفئ الأخلاق السيئة وتقود إلى التوبة، التي تظهر بالتصميم على تجنب فعل الشر وعمل الخير في المستقبل.«من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يُقر بها ويتركها يُرحم»(سفر الأمثال 28: 13).
إلا أن بعض الذين يعيشون حياة مريحة، ليست فيها شدائد، يرون أن التوبة ليست ضرورية وأساسية في حياتهم، والتمسك بأمور الدين هو من العصور القديمة التي عفا عنها الزمان، وبالتالي لا يعترفون بحياة الطهارة، ولا يشعرون بالذنب عندما يرتكبون الإثم، وذلك بسبب طغيان المادية على حياتهم. وهؤلاء يصيبهم ضرر روحي ونفسي، لاستخفافهم بالأمور الروحية. «يحجزون الحق بالإثم»(رسالة رومية 1: 18). «لذلك أسلمهم الله أيضاً فيشهوات قلوبهم إلى النجاسة» (رومية 1: 24).
2-3-2- رضا الضمير:
ذلك الشعور الناشئ عن الاعتقاد بأن الإنسان قد عمل عملاً فاضلاً، أو قد أدى الواجب، وسلك بأسلوب حسن، أو أنه لم يفعل خطيئة، أو لم يساهم في خسارة أو عذاب لغيره.
لكن الشعور برضا الضمير قد يكون خطراً، لأنه قد يكون مزيفاً. ويظهر هذا النوع من رضا الضمير المخادع في الحالات التالية:
1- عندما يظن أو يتوهم الإنسان أن ما فعله كان صحيحاً. «تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله»(إنجيل يوحنا 16: 2).
في أيام ألمانيا النازية، صار المواطن الألماني المتأثر بالدعاية النازية، يشعر بتأنيب الضمير إن هو عمل خيراً لأحد أفراد الشعوب المحتقرة.
2- عندما يظن الإنسان أن عدم القيام بعمل ما، أفضل من القيام به، لأن القيام بالعمل قد يؤدي إلى خطأ أو ارتكاب خطيئة. كما حدث مع العبد أو الأجير عندما لم يوظف الوزنة التي أخذها من سيده، بسبب خوفه من قسوة هذا السيد. (راجع مثل الوزنات في إنجيل متى 25: 14– 30). يقول يعقوب «فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له»(رسالة يعقوب 4: 17).
3- عندما يحابي الإنسان في الحكم، بالتغاضي عن المساوئ، وتذكّر الجوانب الحسنة فقط دون الرديئة، وذلك بسبب نقص في الفهم، وسوء في تحليل الموقف. يقول المسيح بشأن عدم المحاباة في الحكم «فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى، أفتسخطون عليّ لأني شفيت إنساناً كله في السبت.لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً»(إنجيل يوحنا 7: 24) والحكم العادل غير المتحيز يحتاج إلى الأدلة، لئلا يقع في خطية المحاباة. «إن كنتم تُحابون تفعلون خطية»(رسالة يعقوب 2: 9).
4- عندما يحمّل الإنسان نفسه ما لا تطيق، تلبية لأوامر ضمير غافل يطالبه بالكمال، وهو لا يعرف مشيئة الله بشكل كامل من جهة أمر معين. لذلك يحدد الكتاب المقدس المجال لقدرة الإنسان على التحمل، فيقول مثلاً من جهة العلاقات
بين الناس: «إن كان ممكناً فحسـب طاقتكم سالمواجميع الناس»(رسالة رومية 12: 18). إن كان ممكناً، تستلزم أنه لا يمكن للمسيحي أن يسالم جميع الناس دائماً، لأنه كثيراً ما تتعذر المسالمة بين أصحاب الحق وفاعلي الشر. إن هذا الضمير الغافل هو ضمير حساس للغاية. صحيح أن الضمير الحساس يساعد المؤمن على تجنب الكثير من السقطات، لكن الضمير المفرط في الحساسية والمَرَضي، هو ضمير غافل، ونجده بين المسيحيين غير الناضجين، بسبب فهمهم الناقص لإرادة الله، كما نجده بين المسيحيين الأكثر نضوجاً، الذين فقدوا الاتصال بالنعمة الإلهية، واعتمدوا على أنفسهم في حفظ الشريعة واتباع المسيح.
5- عندما ضمير الإنسان لا يعارضه في سيره وراء شهواته ونزواته غير المقدسة، لأنه ضمير قاسٍ «إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة اللهلسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم. الذين إذ هم قد فقدوا الحس أسلموا أنفسهم للدعارة .. »(رسالة أفسس 4: 18، 19).ويعني بـ فقدوا الحس، أن ضمائرهم توقفت عن أن توبخهم أو تنهاهم عن فعل الشر.
2-3- 3- إسكات (تجاهل) الضمير:
نشعر بالراحة والطمأنينة عندما نصغي لصوت ضميرنا، فنسمح له أن يملي مطالبه على إرادتنا، فيؤدي عمله بسلام. لكن عندما تتجه هذه الإرادة نحو التمرد ورفض الخضوع له ولإنذاراته، يضعف عمله فينا ويفقد قدرته على إصدار أحكامه، ويتم إسكاته وتجاهله على النحو التالي:
آ- نثابر على التمرد ضد أحكامه، للتخلص من تنبيهاته قبل العصيان وتبيكته بعد العصيان، فيضعف تأثيره الإيجابي، ونصاب بظلمة داخلية. «حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي»(رسالة رومية 1: 21)، أي انحطوا بتفكيرهم إلى الحماقة وصار قلبهم لغباوته مظلماً.
ب- ندافع عن رغباتنا ونزواتنا غير المقدسة ونبررها بطريقة تبدو منطقية. «الشرير يفتخر بشهوات نفسه»(سفر المزامير 36: 4). «يتفكربالإثم على مضجعه يقف في طريق غير صالح. لا يرفض الشر»(سـفر المزامير 36: 4). ثم نتهم الظروف والناس بأنهم وراء سقوطنا في الخطية.
ت- نعيش بجانب الخطية ونهادنها، لكوننا مظلمي البصيرة ومتغربين عن الحياة القريبة من الله، بسبب ما فينا من جهل و قسوة قلب.«إذ هم مظلموالفكر ومتجنبون عن حياة الله، لسبب الجهل الذي فيهم، بسبب غلاظة قلوبهم» (رسالة أفسس 4: 18). والكتاب المقدس يعلّم «حِد عن الشر واصنع الخير،اطلب السلامة واسع وراءها»(سفر المزامير 34: 14).
ث- نُحزِن الروح القدس «ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه»(سفر أشعياء 63: 10). والروح القدس يعمل على تبكيت العالم على الخطية. «ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة»(إنجيل يوحنا 16: 8) ويقدم للعالم البرهان على الخطية، لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح المخلص. وعندما نحزنه نضعِف عمله في تبكيت ضمائرنا على الخطية التي نقع في حبائلها.
ج- نسقط في التجربة، وهذا السقوط يجردنا من المقاومة. والضمير الحساس وسيلة قوية للمقاومة. بينما الضمير النائم والذي تم إسكاته وتجاهله ضمير غير حساس فلا يلاحظ الخطر إلا بعد فوات الأوان. والسقوط في التجربة يسبقه البحث عن حياة المتعة الوقتية في الخطية. يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن موسى: «مفضلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله على أن يكونله تمتع وقتي بالخطية»(عبرانيين 11: 25).
ح- نمتنع عن إقامة علاقة وثيقة مع الله. والعيش وفق حياة الطهارة. «تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر»(سفر المزامير 16: 4)
ويقوم البعض بإسكات ضميرهم وتجاهله، وبالتالي لا يعترفون بذنوبهم بسبب الكبرياء والاعتداد بالنفس، أو بسبب الخوف من تحويل حياتهم إلى أمر لا يطاق بسبب ملاحقة ضميرهم لهم.
2-4- الضمير المسيحي:
إن الضمير موجود لدى كل الناس. فهو عند المسيحي يؤكد على الشـريعة المعلنة في الكتاب المقدس لأنه يؤمن بها، وهو عند الوثني ينوب عن الشريعة المكتوبة، لأنه عندما يعرف القيم الأخلاقية الجيدة، ويقبلها، يعلن أن هذه الشريعة محفورة في قلبه. «لأنه الأمم الذين ليس عندهم ناموس.... فهؤلاء إذ ليس لهم ناموس همناموس لأنفسهم الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم»(رسالة رومية 2: 14، 15).
فالضمير بحد ذاته ليس ميزة مسيحية، لكنه مُعد لتقبل بذار الإنجيل، فالمسيح ينير كل إنسان. «ينير كلإنسان آتياً إلى العالم»(إنجيل يوحنا 1: 9). فكثيراً ما يتعلم المسيحي من الآخرين، إذ كثير ما يكون«أبناء هذا الدهر أحكم من أبناءالنور في جيلهم»(إنجيل لوقا 16: 8). كما يتعلم المسيحي من الطبيعة لتهذيب ضميره «أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل إن كانيرخي شعره فهو عيب له» (رسالة كورنثوس الأولى 11: 14). إلا أن ضمير الإنسان المسيحي يُنار بالإنجيل، وينتعش بالمحبة التي أسُسها معلنة بالكتاب المقدس. إلا أن الضمير المسيحي يتميز عن غيره من الضمائر بما يلي:
2-4-1-يصدر أحكامه ويتخذ قراراته الأخلاقية بناء على المحبة، التي تجعل كل المعايير والشرائع خاضعة لها، لهذا كسر المسيح ربنا وصية السبت ليقدم رحمة بدافع المحبة. (راجع إنجيل متى 9: 10– 13).لكنها لا تلغيالناموس، لكن تسمو فوقه. لأن«المحبة لا تصنع شراً للقريب. فالمحبة هيتكميل الناموس» (رسالة رومية 13: 10).لأن غاية الناموس المحبة لله وللناس.
2-4-2- يتخذ الضمير معيار المحبة لقراراته لأنها نافعة للبنيان دائماً باعتبارهاجوهر الوصايا الإلهية. (راجع قصة السامري في إنجيل لوقا 10: 30 – 37).
2-4-3- يتبنى الضمير المسيحيمحبة القريب، وأيضاً محبة العدو باعتبار أن المحبة المسيحية ليست ميلاً عاطفياً فقط، لكنها أيضاً إرادة الخير لجميع الناس. «وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكموصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم»(إنجيل متى 5: 44).
وخاتمة الأمر، الضمير يدل على قدرة الإنسان على القيام بمراقبة الذات الأخلاقية، ومطالبتها بتأدية واجباتها، وتقييم وتقويم ما قامت به من أعمال وأقوال وأفكار.
كما يتجلى دوره في مقاومة النقائص وتنمية الفضائل الشخصية، الذي هو مطلب أخلاقي وفق معايير، إن كانت هذه المعايير مطلقة (مثالية) أو معايير نسبية تستحسنها التربية التي يتربى عليها الشخص في بيئته، وتتفق مع تعاليم الكتاب المقدس.
ويبقى الأمر المحير للضمير، هو اتخاذ القرار المناسب المنسجم بين الأخلاق المثالية الموجودة في تعاليم الكتاب المقدس، والتطبيق اليومي لهذه الأخلاق. والسؤال الذي يطرح نفسه، إلى أي مدى يمكن أن تكون المحبة المسيحية وحدها كافية لردم الهوة بين المثالية والتطبيق الواقعي للأخلاق؟
المــراجــع
المراجع باللغة العربية:
1ً- إدي، وليم، (1973)، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل الجزء الخامس، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت.
2ً- إدي، وليم، (1973)، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل الجزء السادس، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت.
3ً- إدي، وليم، (1973)، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل الجزء السابع، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت.
4ً- إدي، وليم، (1973)، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل الجزء الثامن، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت.
5ً- بدوي، عبد الرحمن، (1976)، الأخلاق النظرية، ط2 وكالة المطبوعات، الكويت.
6ً- تيتارينكو، ألكسندر، (1990)، علم الأخـلاق، دار التقدم موسكو.
7ً- ري، تيودول، ( 1993)، الخلقية، ترجمة مرعي، أمين منشورات معهد الليتورجيا، جامعة الروح القدس، الكسليك، لبنان.
8ً- فارس، فايز، (1992 )، علم الأخلاق المسيحية، الجزء الثاني، دار نوبار للطباعة، القاهرة.
9ً- فيليبس، ج.ب،(بلا تاريخ)، ما أصغر إلهك، المنشورات
المعمدانية، مطبعة قلفاط، بيروت.
10ً-كون، إيغور، (1983)،معجم علم الأخلاق، ترجمة سلوم، توفيق ، دار التقدم، مكتبة الطالب، موسكو.
11ً- مارش، وليم، ( 1973 )، السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم، الجزء الرابع، مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت.
12ً-مصطفى، إبراهيم، وآخرون (1960)، المعجم الوسيط ط3، القاهرة.
13ً- هالسبي، أ، (1985)، الضمير، تعريب جرجور، نجيب ط2، منشورات دار النفير، بيروت.
المراجع باللغة الإنكليزية:
14- Zacharias, Ravi, (1997), Cries of The Heart Library of Congress Cataloging–in Publication Data, U.S.A